فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولذلك قال بعض أهل السلف لابنه: «يا بني لا تكذبن ولا تشبّهن بالكذب».
فنهاه عن المعاريض، لئلا يجري على اعتيادها، فيتجاوزها إلى الكذب، وأحبّ أن يكون حاجزا من الحلال بينه وبين الحرام.
ومن هذا الباب قول اللّه عز وجل: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]. والمعنى: إنّا لضالّون أو مهتدون، وإنكم أيضا لضالون، أو مهتدون، وهو جل وعز يعلم أن رسوله المهتدي وأن مخالفه الضالّ، وهذا كما تقول للرّجل يكذبك ويخالفك: إنّ أحدنا لكاذب. وأنت تعنيه، فكذّبته من وجه هو أحسن من التصريح، كذلك قال الفرّاء.
وأما قوله سبحانه: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] ففيه تأويلان:
أحدهما: أن تكون المخاطبة لرسول اللّه، صلّى اللّه عليه وسلم، والمراد غيره من الشّكّاك، لأنّ القرآن نزل عليه بمذاهب العرب كلهم، وهم قد يخاطبون الرّجل بالشيء ويريدون غيره، ولذلك يقول متمثّلهم: إيّاك أعني واسمعي يا جارة.
ومثله قوله: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)} [الأحزاب: 1].
الخطاب للنبي، صلّى اللّه عليه وسلم، والمراد بالوصية والعظة المؤمنون، يدلك على ذلك أنه قال: {وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)} [الأحزاب: 2].
ولم يقل بما تعمل خبيرا.
ومثل هذه الآية قوله: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} [الزخرف: 45]، أي سل من أرسلنا إليه من قبلك رسلا من رسلنا، يعني أهل الكتاب، فالخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلم والمراد المشركون.
ومثل هذا قول الكميت في مدح رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وسلم:
إلى السّراج المنير أحمد لا ** يعدلني رغبة ولا رهب

عنه إلى غيره ولو رفع النـ ** ـاس إليّ العيون وارتقبوا

وقيل: أفرطت، بل قصدت ولو ** عنّفني القائلون أو ثلبوا

لجّ بتفضيلك اللّسان ولو ** أكثر فيك اللّجاج واللّجب

أنت المصفّى المحض المهذّب في ** النّسبة إن نصّ قومك النّسب

فالخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلم، والمراد أهل بيته، فورّى عن ذكرهم به، وأراد بالعائبين واللائمين بني أمية.
وليس يجوز أن يكون هذا للنبي، صلّى اللّه عليه وسلم، لأنه ليس أحد من المسلمين يسوءه مدح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، ولا يعنّف قائلا عليه، ومن ذا يساوى به، ويفضّل عليه، حتى يكثر في مدحه الضّجاج واللّجب؟.
وإن الشعراء ليمدحون الرجل من أوساط الناس فيفرطون ويفرّطون فيغلون وما يرفع الناس إليهم العيون ولا يرتقبون، فكيف يلام هذا على الاقتصاد في مدح من الإفراط في مدحه غير تفريط، ولكنه أراد أهل بيته.
والتأويل الآخر: أن الناس كانوا في عصر النبي صلّى اللّه عليه وسلم أصنافا:
منهم كافر به مكذّب، لا يرى إلا أن ما جاء به الباطل.
وآخر: مؤمن به مصدّق يعلم أن ما جاء به الحق.
وشاك في الأمر لا يدري كيف هو، فهو يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى.
فخاطب اللّه سبحانه هذا الصّنف من الناس فقال: فإن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد صلّى اللّه عليه وسلم فسل الأكابر من أهل الكتاب والعلماء الذين يقرؤون الكتاب من قبلك، مثل: عبد اللّه بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الدّاري وأشباههم، ولم يرد المعاندين منهم فيشهدون على صدقه، ويخبرونك بنبوّته، وما قدّمه اللّه في الكتب من ذكره فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ} [الزمر: 2]، وهو يريد غير النبي، صلّى اللّه عليه وسلم.
كما قال في موضع آخر: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10].
وحّد وهو يريد الجمع، كما قال: {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (6) [الانفطار: 6].
و{يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} (6) [الانشقاق: 6].
وقال: {وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ} [الزمر: 8].
ولم يرد في جميع هذا إنسانا بعينه، إنما هو لجماعة الناس.
ومثله قول الشاعر:
إذا كنت متّخذا صاحبا ** فلا تصحبنّ فتى دارميّا

لم يرد بالخطاب رجلا بعينه، إنما أراد: من كان متّخذا صاحبا فلا يجعله من دارم.
وهذا، وإن كان جائزا حسنا، فإنّ المذهب الأول أعجب إليّ، لأنّ الكلام اتصل حتى قال: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99].
وهذا لا يجوز أن يكون إلّا لرسول اللّه، صلّى اللّه عليه وسلم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (190):

قوله تعالى: {فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)}

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

وأشار بالفاء إلى قرب الولادة من الدعاء فقال: {فلما آتاهما} أي أبويكم آدم وحواء {صالحًا} أي جنس الولد الصالح في تمام الخلق بدنًا وقوة وعقلًا، فكثروا في الأرض وانتشروا في نواحيها ذكورًا وإناثًا {جعلا} أي النوعان من أولادهما الذكور والإناث، لأن {صالحًا} صفة لولد وهو للجنس فيشمل الذكر والأنثى والقليل والكثير، فكأنه قيل: فلما آتاهما أولادًا صالحي الخلقة من الذكور والإناث جعل النوعان {له شركاء} أي بعضهم أصنامًا وبعضهم نارًا وبعضهم شمسًا وبعضهم غير ذلك، هذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة نافع وأبي بكر عن عاصم بكسر الشين وإسكان الراء والتنوين التقدير: ذوي شرك {فيما آتاهما} أي من القوى بالعبادة والرزق بالنذور ونحوها.
ولما لم يضر المشركون بالإشراك إلا أنفسهم، سبب عن ذلك قوله: {فتعالى الله} أي بما له من صفات الكمال التي ليست لغيره تعاليًا كثيرًا، والدليل على إرادة النوعين قوله: {عما يشركون} بالجمع، وكذا ما بعده من عيب عبادة الأصنام. اهـ.

.قال الفخر:

{فَلَمَّا ءاتاهما} الله {صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما} والكلام في تفسيره قد مر بالاستقصاء قرأ ابن كثير وابن عامر، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية حفص عَنْهُ {شُرَكَاء} بصيغة الجمع وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر عَنْهُ بكسر الشين وتنوين الكاف ومعناه جعلا له نظراء ذوي شرك وهم الشركاء، أو يقال معناه أحدثا لله إشراكًا في الولد ومن قرأ {شُرَكَاء} فحجته قوله: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ} [الرعد: 16] وأراد بالشركاء في هذه الآية إبليس لأن من أطاع إبليس فقد أطاع جميع الشياطين، هذا إذا حملنا هذه الآية على القصة المشهورة، أما إذا لم نقل به فلا حاجة إلى التأويل والله أعلم. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الضَّمِيرُ فِي جَعَلَا عَائِدٌ إلَى النَّفْسِ وَزَوْجِهِ مِنْ وَلَدِ آدَمَ لَا إلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ.
وَقَالَ غَيْرُهُمَا: رَاجِعٌ إلَى الْوَلَدِ الصَّالِحِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ وَذَلِكَ صَلَاحٌ فِي خَلْقِهِ لَا فِي دِينِهِ وَرَدَّ الضَّمِيرَ إلَى اثْنَيْنِ لِأَنَّ حَوَّاءَ كَانَتْ تَلِدُ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ ذَكَرًا وَأُنْثَى. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله: {فَلَمَّا ءاتاهما} يعني أعطاهما {صالحا} خلقًا آدميًا سويًا {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما} قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} بكسر الشين وجزم الراء وقرأ الباقون {شُرَكَاء} بالضم ونصب الراء.
فمن قرأ بالكسر فهو على معنى التسمية، وهو اسم يقوم مقام المصدر ومن قرأ بالضم فمعناه: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} يعني: الشريك في الاسم وإنما ذكر الشركاء وأراد به الشريك يعني: الشيطان فإن قيل: من قرأ بالكسر كان من حق الكلام أن يقول جعلا لغيره شركًا، لأنهما لا ينكران أن الأصل لله تعالى.
وإنَّما جعلا لغيره شركًا أي نصيبًا.
قيل له: معناه {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} يعني: ذا شرك.
فذكر الشرك والمراد به شركه كقوله تعالى: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [يوسف: 12] أي أهل القرية فضرب الله تعالى بهذا مثلًا للكفار يعني: كما أن آدم وحواء أعطاهما ورزقهما فاشركوا في عبادته.
ثم نزه نفسه عن الشرك فقال تعالى: {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي هو أعلى وأجل من أن يوصف بالشرك. اهـ.

.قال الثعلبي:

{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا} أي ولدًا بشرًا سويًا حيًا آدميًا {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ}.
قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير وأبان بن ثعلب وعاصم وعكرمة وأهل المدينة شركاء بكسر الشين والتنوين أي شركه.
قال أبو عبيدة: أي حظًا ونصيبًا من غيره، وقرأ الباقون شركاء مضمومة الشين ممدودة على جمع شريك أخبر عن الواحد بلفظ الجمع، لقوله تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 173] مفردًا، تم الكلام هاهنا ثمّ قال: {فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} يعني أهل مكة.
واختلف العلماء في تأويل الشرك المضاف إلى آدم وحواء فقال المفسرون: كان شركاء في التسمية والصفة لا في العبادة والربوبية.
وقال أهل المعاني: أنهما لم يذهبا إلى أن الحرث ربهما بتسميتهما ولدهما عبد الحرث لكنهما قصدا إلى أن الحرث سبب نجاة الولد وسلامة أُمّه فسمياه، كما يُسمى ربّ المنزل، وكما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه على جهة الخضوع له لا على أن الضيف ربّه.
كما قال حاتم:
وإنّي لعبد الضيف ما دام ثاويًا ** وما فيّ إلاّ تلك من شيمة العبد

وقال قوم من أهل العلم: إن هذا راجع إلى المشركين من ذرية آدم وإن معناه جعل أولادهما له شركاء فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كقوله تعالى: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] وكما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء في تفريقهم بفعل آبائهم، فقال لليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ اتخذتم العجل من بعده. وقال: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادارأتم فِيهَا} [البقرة: 72]. وقال سبحانه: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ الله} [البقرة: 91] ونحوها، ويدل عليه ما روى معمر عن الحسن قال: عني بهذا من أشرك من ذرية آدم ولم يكن عنى آدم.
وروى قتادة عنه قال: هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادًا فهودوا ونصّروا.
وقال ابن كيسان: هم الكفار جعلوا لله شركاء عبد العزى وعبد مناة.
وقال عكرمة: لم يخص بها آدم ولكن جعلها عامة لجميع بني آدم من بعد آدم.
قال الحسين بن الفضل: وهذا حجب إلى أهل النظر لما في القول الأول من إلصاق العظائم بنبي الله آدم عليه السلام ويدل عليه جمعه في الخطاب حيث قال: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}، ثمّ قال: {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا} انصرف من ذلك الخطاب إلى الخبر يعني فلما تغشى الرجل منكم امرأته. اهـ.

.قال الماوردي:

{فَلَمَّا ءَاتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَاهُمَا}.
وذلك أن إبليس قال لحواء سَمِّيه: عبد الحارث، يعني نفسه لأنه اسمه في السماء كان الحارث فسمته عبد الله فمات، ثم حملت ولدًا ثانيًا فقال لها ذلك فلم تقبل، فمات، ثم حملت ثالثًا فقال لها ولآدم، أتظنان الله تارك عبده عندكما؟ لا والله ليذهبن به كما ذهب بالآخرين فسمياه بذلك فعاش، فهذا معنى قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَاهُمَا} أي في الاسم، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خدعهما مرتين خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض.
وقال الحسن وقتادة: إن المكنّى عنه بقوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَاهُمَا} ابن آدم وزوجته، وليس براجع إلى آدم وحواء. اهـ.